شوائب الجمال .. وجمال الشوائب

دخلتْ العيادة وقد تباطأت خطاها، وفي عينيها ملامح أثقلتها الهموم وتسابقت إليها الغموم فأذبلتها وهي في ربيع العمر، وفي وجهها بعض الحبيباتالمتناثرة، وبعض البقع و الندب السطحية إثر حبوب سابقة. سألتُها بلطف: تفضلي، ما شكواك؟ فأشارت بكلتي يديها إلى وجهها قائلة: ألا ترين وجهي المشوّه؟

وما كان أشد عجبي من تلك العبارة، وجعلتُ أتنقل ببصري في أرجاء وجهها أتلمّس ذلك ”التشوّه" وأتبيّن ما يمكن أن تحمله تلك العبارة من العلامات، فلم أجد إلى شيء من ذلك سبيلاً، واستوقفتني دمعة حارقة من عينيها وهي تقول: إنني أقضي جُلّ وقتي في مراكز التجميل والعيادات الطبية أبتغي العون والاستشارة ممن اشتهروا بالحذق والمهارة من الأطباء والخبراء، أنفقت الأموال الطائلة في شراء الأدوية، الطبية منها والعشبية، خضعتُ للعديد من جلسات التقشير بالمواد الكيماوية وبمختلف الأجهزة الحديثة حتى لقد بلغ بي العناء كل مبلغ. وقدانعزلت تماماً فما عدت اختلط بالناس في لقاء أو مناسبة. فهل إلى حلّ من سبيل؟

دوّنتُ بعض المعلومات عن تاريخها المرضيّ، وبعد الفحص والمعاينة كتبتُ لها برنامجا علاجياً جديداً لم تستخدمه من قبل، وبيّنتُ لها اختلاف الاستجابة للعلاجات تبعا للون البشرة وعمق الآثار، و نوّهتُ أن الندب قد لا تختفي بشكل نهائي إلا أن التحسن سيكون ملحوظاً بإذن الله. وأوصيتها بضرورة الالتزام بالبرنامج والتحلّي بالصبر. ثم سجلتُ لها موعدا للمتابعة.

أمسكتْ بالوصفة الطبية، وقد أشرق في عينيها بريق الأمل، ومضت قائلة: أعدك أن ألتزم حرفياّ بالعلاج، كيف لا؟ وهذه القضية هي أهمّ وأعظم أولوياتي في الحياة، شكرا لك.

تألّمْتُ لحالها، أيّ فكرٍ ذلك الذي يحصر المرء في أضيق جانب من الإنسانية، فيبني تقييمه للحياة بكل معانيها وهياكلها على ذلك الأساس وحسب!، فإذ غاب ذلك الذي اتخذه أساساً، هوى بنيان الحياة بأكمله لديه. وفي سبيل استبقاء ذلك، يتكبد كل ما أوتي من المال والوقت والجهد.

وتساءلتُ في نفسي: أي تعريف هو الأدق للجمال؟ وما الذي يمكن أن يشوبه؟تذكرت إحدى قنوات التلفزة حين استضافت واحدة من رموز الفن و الجمال، وصفوها بأجمل جميلات عصرها، وقد صدقوا. ولئن سنّ البشر من المقاييس أرقاماً للجمال، فلا شك أن تلك المرأة قد تطابقت مع أدق الأجزاء لتلك الأرقام. و بدأ معها الحوار، و إذا بركاكة العبارة وضحالة الفكر تقطعان تيار ذلك الجمال الطاغي وتطفئان أنواره ليستحيل المكان بقعة من الظلام في الأرض، وإذا بحديقة الجمال الغناء تُقفِر في أقل من لحظات لتغدو أرضا جدباء قاحلة. ربما هو شعور قد انتاب البعض فقط، و لكنه البعض ممن يدرك أن في الجمال روحاً متى خلا منه فإنه يتهاوى من معاني السماء إلى معاني الأرض.

كم من جميلٍ ينقصه العلم والأدب، كم من وسيم لا يفقه شيئا من أمر دينه، كم من وجه متناسق وفي رأسه جمودٌ لا ينمو وفي فكره ضيقٌ لا يتسع، كم من ملامح فاتنة تخفي تحت بريقها حسداً وحقدا لا تملك النفوس أمامهما إلا نفورا. وكم من وجوه حُفِرتْ فيها الآثار العميقة، ولكن أصحابها خطّوا في التاريخ خطوطا أعمق، فلا تذكرهم البشرية إلا بأجمل الأوصاف وأحسن الألقاب.

وبحسب امرىء من جمال الروح ما يتسامى به إلى العلياء وهو على سطح الأرض، فحينما يسمو المرء وينتصر على دنوّ دنياه فإنه يرقى بروحه وبجسده إلى طبقات السماء ولا يجد من "شوائب" جسده إلا كما يجد الظافر بالنصر في المعركة وقد أصيب في كل موضع بجراح، ولكنه يفخر بها إذ يرى في كل جرح وفي كل ندبة شهادةً للنصر.

إن لشوائب الجمال في هذا الكون شأناً عجيباً، وبعض الاضطراب إنما هو من تمام الاتساق في المعنى، و شيء مما يعتبره البشر نقصاً إنما يتمّ به الكمال. ويجيئ التغيير عن الطبيعة الجامدة بمثابة النبض في سكون القلب. وهل ذلك إلا سر من أسرار الجمال في الحياة؟

تأمل القمر، تجد لونه أدكن مغبرّ يضرب أحياناً إلى السواد، وترى فيه صخوراً وارتفاعاً ثم انخفاضاً يتداخل في بواعث النفس، و يتفاوت معه الإحساس بين القبض والبسط، ولا تملك النفس حينها إلا أن تسمو لتستقر فوق ذلك السطح و تشرف على الدنيا من فوق، حيث أجمعت البشرية على أنه المكان الأجمل.

تبيّنْ حبات اللؤلؤ.. فترى أن عدم استواء سطحها هو نسق بذاته، فلا تستريح العين لرؤية الاستدارة الكاملة بل قد يساورها الشك بأصالة تلك الحبة، ثم اسأل علماء الأرض عن قطع الأحجار الكريمة، تراهم يستدلون على أصالتها بما يجدونه فيها من شوائب الطبيعة.

وعندما تبتاع ثوباً من الحرير، تجد ملصقا كُتِب عليه: (ستجدون بعض الشوائب في هذه القطعة وشيئاً من الاختلاف في اللون والملمس، وذلك هو أصدق الدليل على أنها من مواد طبيعية وخالصة).

لست أملك تفسيرا لتلك الفلسفة، لكنني أراها من لطيف صنع الله في كونه، وعجيب تدبيره في خلقه، ولعلّ عين الإنسان تملّ الرتابة ولا تستلطف الثابت من الأنماط والأشكال، ولعل من نواميس الكون أن تحفز الشوائبُ بعضَ المراكز في أدمغتنا لتجعلنا نرى الأشياء بها أجمل.

إن ما يُرى ليس هو ما يُحَس، وما هو مستخْفٍ من المعاني يفوق ما هو ظاهر من المعالم، و يبقى الإنسان في هذا الكون مصنعاً إلهياً عجيباً لا يسُدّ اكتمالُ الجسد فيه نقصَ المعاني، ولكن المعاني قادرة على إتمام نقص الأجساد.

 

الدكتورة فايزة محمد آل علي