الطب المبني على البراهين: رفاهية أم ضرورة؟

يندهش كثير من الأطباء، ناهيك عن غيرهم، حينما يثار الحديث حول ضرورة أن تأتي الممارسة الطبية مدعمة بأفضل الأدلة البحثية المتوفرة، ويتساءلون: "أليس هذا أمرًا بدهيًا ؟ أليس هو الواقع ؟ ألا يقوم الأطباء والعاملون في القطاع الصحي بالرجوع إلى أفضل الأدلة المتوفرة عند اتخاذهم لقرارات تتعلق بالمرضى أو بالنظام الصحي؟ ألا ترتكز توصيات الكتب والمقالات المرجعية الحديثة على أحدث الأدلة البحثية المتوفرة وأفضلها؟".

وعلى الرغم من أن هذه الأسئلة تحمل في طياتها الإجابات التي كانت متوقعة، ولكن "الواقع" للأسف الشديد يشير إلى غير ذلك، حيث تتراوح نسبة القرارات السريرية المدعمة بأدلة من المرتبة الأولى في الممارسة العامة (الرعاية الأولية) بين 21 – 38% وفي التخصصات الأخرى (الرعاية الثانية والثالثة) بين 14-53%. أما نسبة القرارات السريرية المدعمة بأدلة من المرتبة الأولى أو الثانية فهي تتراوح بين 42-81% في الممارسة العامة وبين 45-97% بالنسبة للتخصصات الأخرى.

 

أضف إلى ذلك أن هناك أمثلة عديدة تدل على أن الكثير من التدخلات العلاجية التي سيقوم بها الأطباء لأنها "بديهية" أو "منطقية" قد لا تكون بالضرورة مفيدة للمرضى. ومن المثير للدهشة أنه في كثير من الأحيان كانت هناك دراسات منشورة ذات جودة عالية (تجارب معشاة مضبوطة بالشواهد) تؤكد أن هذا الشيء المنطقي غير فعال وربما ضار بالمرضى ولكن لم يؤثر ذلك في سلوك الأطباء لأسباب مختلفة. وفيما يلي نسوق بعض الأمثلة على ذلك.

 

كان الأطباء في الغرب دائمًا يوصون بأن يوضع الرضع على بطونهم حين النوم وذلك تخوفًا من الارتجاع أو الاختناق مما يؤدي إلى وفاة الرضع بشكل فجائي. وفي ثمانينيات القرن العشرين تساءل بعض الأطباء عما إذا كان هناك دليل يدعم هذه الممارسة، واتضح أن نسبة الوفيات نتيجة للإصابة بمتلازمة الوفاة المفاجئة للرضع كانت أقل بكثير لدى الأطفال الذين يرقدون على ظهورهم مما أدى إلى إنشاء البرنامج الوطني "النوم على الظهر" وتطبيقه في الولايات المتحدة الأمريكية. ولو طرح هذا السؤال قبل ذلك بعشرين سنة، ربما أمكن إنقاذ عشرات الآلاف من الأرواح.

 

كما كان الأسلوب التقليدي لدى أطباء الأسرة وأطباء العيون في علاج سحج القرنية البسيط (corneal abrasion) هو تغطية العينين ووضع قطرات تحوي موسعًا للحدقة ومضادًا حيويًا. ولكن لم يسأل أحد أبدًا عما إذا كان ذلك مفيدًا، فقد كان ذلك هو "الشيء المنطقي". واتضح أن هناك على الأقل خمس تجارب معشاة (عشوائية) مضبوطة بالشواهد حول تغطية العين أو عدم تغطيتها، وجميعها خرجت بنفس الإجابة: ليس لتغطية العين أي فائدة، بل ربما تقلل من سرعة الالتئام وتزيد من عدم شعور المرضى بالراحة.

 

وفي نهاية ثمانينيات القرن العشرين، لاقى عقار إينكانيد (encanide) وفليكانيد (flecainide) رواجًا كبيرًا باعتبارهما الأدوية المنظمة لدقات القلب ويرجع ذلك إلى قدرتهما على السيطرة على عدم الانتظام البطيني (ventricular arrythmia). ولكن أظهرت تجربة معشاة كبيرة ومضبوطة بالشواهد (case-control study) أن نسبة الوفيات كانت أعلى بكثير بين من تلقوا أحد هذين العلاجين مقارنة بالشواهد (من لم يتلقوا العلاج). وهذا يوضح مشكلة الاعتماد على نتائج "وسطية" أو نتائج تتعلق بالداء فقط مثل تنظيم دقات القلب، وليس بالأحرى النظر إلى مقاييس أكثر أهمية للفرد والمجتمع مثل نسبة الوفيات، والمراضة، وجودة الحياة.

 

ولعل أولى الخطوات الجادة لمغايرة هذا الوضع (الفجوة بين الممارسة ونتائج البحوث) أتت من مجموعة الطب المستند إلى الأدلة (EBM group) من جامعة مكماستر بقيادة ديفيد ساكت وزملائه وتعد مقالتهم التي نشرت في نوفمبر 1992م مقالة رائدة(3)، وهي أول مقالة ورد فيها ذكر مصطلح "الطب المستند إلى الأدلة" أو "الطب المبني على الأدلة" حسب ما وجدت في قاعدة بيانات ميدلاين (MEDLINE) وهي أكبر وأهم قاعدة بيانات في المجال الطبي. وقد لفتت هذه المقالة الأنظار إلى أهمية تغيير الصورة الذهنية عن الكيفية التي تتم بها الممارسة الطبية وأثر ذلك على النتائج المتعلقة بالمرضى، واستعرضت مبادئ ومتطلبات الممارسة الطبية المستند إلى الأدلة، والمعوقات التي تعترض طريق تعليم الطب المستند إلى الأدلة وممارسته وانتشاره على نطاق واسع. وقد كان لهذه المقالة أصداء واسعة في المجتمع الطبي.

 

وسرعان ما اتضح أن هذه المبادئ هامة لغير الأطباء أيضًا وبدأ الحديث عن الممارسة الصحية (وليس الطبية فقط) المستندة إلى الأدلة. وتلا ذلك تأسيس الكثير من المراكز والمعاهد في شتى أنحاء العالم والتي تعنى بتعزيز الممارسة المرتكزة على الأدلة بطرق مختلفة ولكنها متوافقة فيما بينها. وحينما نستعرض قاعدة ميدلاين بعد مرور أكثر من عشر سنوات (عام 2005م) نجد ما يربو على 15,000 مقالة تحوي في عنوانها أو ملخصها مصطلح "الطب المستند إلى الأدلة أو البراهين" أو "الرعاية الصحية/ الممارسة الطبية المستندة إلى الأدلة أو البراهين". ويتعلق أكثر من تسعمائة مقالة منها بالممارسة العامة أو طب الأسرة أو الرعاية الصحية الأولية.

 

فقد يكون من الصعب (إن لم يكن متعذرًا) في بعض الأحيان أن نجد أدلة وبراهين تتعلق بجميع القضايا التي تهمنا وتهم مرضانا، ولكن بالمقابل لا يمكن أن نتجاهل أن هناك عددًا هائلاً من الأدلة البحثية المرتبطة بالقضايا والمشكلات التي نواجهها بكثرة في ممارستنا الطبية. ليس ذلك فحسب، بل أصبحت هناك سبلاً حديثة تيسر لنا الوصول إلى كثير من الأدلة الهامة في ممارستنا الطبية خلال وقت قصير والاستفادة منها إلى الحد الأقصى. وهو ما يدعى بأسلوب " البراعة في الاستفادة من المعلومات" (Information mastery). ولعلنا مطالبين من الناحية الشرعية والأخلاقية أن لا يحرم مرضانا من الاستفادة مما يتوفر من هذه البيانات وأن نبذل قصارى جهدنا في التحصل عليها ووضعها موضع التنفيذ. وعلينا أن نقوم بذلك دون إغفال تفهم أولويات المرضى وأسرهم واختياراتهم المبنية على معتقداتهم وقيمهم ومواقفهم من الأمور.

 

وأخيرا، فإنه في ظل المستجدات في الأنظمة الصحية حيث يزداد التركيز على تحديد النتائج الصحية وقياسها لجميع الإجراءات الصحية والمطالبة المتزايدة بالمسؤولية العامة فيما يتعلق بالرعاية الصحية ومحاسبة المصروفات الصحية وازدياد توفر المعلومات لدى المنتفعين بخدمات الرعاية الصحية، فقد يكون من الخطورة بمكان تجاهل الممارسة المستندة إلى الأدلة في الممارسة العامة. ولعل ما نحن بحاجة إليه فعليًا هو أن نستوعب مفاهيم الممارسة المبنية على الأدلة سريعًا ونبدأ بوضعها في موضع التنفيذ حتى لا نتخلف عن الركب وحتى لا نحرم مرضانا من حقهم في تلقي الرعاية الصحية المستندة إلى أفضل الأدلة العلمية المتوفرة.

  

الدكتورة لبنى بنت عبد الرحمن الأنصاري 

استشارية وأستاذ مشارك

طب الأسرة والمجتمع 

كلية الطب - جامعة الملك سعود