الحناء ... زينة وصحة

قالرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم : " إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم ". رواه الترمذي  وأبو داود  وابن ماجه. وكان عمر الفاروق يقول : " اخضبوا : فإنه أنكى للعدو وأحب للنساء "، وكان السلف يعتبرون الخضاب بالحناء من السنن العملية للرجال والنساء على حد سواء.

 ولقد عرف القدماء أمر الحناء، سواء العرب أو غيرهم، فيحكى أن عبد المطلب بن هاشم كان يختضب ويقال أن فرعون هو أو من خضب بالسواد، وقد اكتشف علماء الآثار أن المومياء المحنطة في قبور الفراعنة لا تزال محتفظة بلون صبغة واضحة عليها رغم آلاف السنين، بل ويقال أنهم استخدموها في عملية التحنيط نظراً لاحتوائها على بعض المواد المطهرة القاتلة للجراثيم، كما يحكى أن " كليوباترا " قد صبغت شعرها بالحناء، وكذلك الأميرة ( قطر الندى ) ابنة حاكم مصر الطولوني " خماروية " وهي التي لا تزال الأهازيج الشعبية تذكر اسمها مقترناً بالحناء، مثل " الحنة يا حنة يا قطر الندى ".

 

والحقيقة أنه ما من أمة من الأمم إلا وعرفت الحناء، وخاصة عند نصفنا الآخر، أقصد النساء، وبالتخصيص ليلة الزفاف ولقد استهوت الحناء حديثاً نساء أوروبا، وغزا سلطان سحرها بيوت التجميل هناك، حتى صارت آخر موضة للفتاة الأوروبية، فصارت تنقش يديها وقدميها وتصبغ شعرها به، بل واخترعت دور الأزياء لباساً خاصاً للخاضبات، وقوالب هندسية ( كليشهات ) لوضع الرسومات حسب الطلب.

 

فما هي الحناء يا ترى ؟ وماذا عن نباتها هذا الذي سحر النساء ليلة زفافهن في القديم والحديث ولاصق أحلام حياتهن السعيدة وارتبط مع الحصان الأبيض الذي تترقبه كل فتاة يحمل لها زوج العمر وشريك الحياة كونه رمز الفرح وبشارة الخير والأماني ؟..

هي في الواقع مسحوق الأوراق الخضراء المجففة لنبات صباغي اسمه ( التمر حنة ) Lawsonia وهذا النبات عبارة عن شجيرة معمّرة حولية الأوراق، تسمى في الهندية " المندي " وعند العرب ( حنّاء ) اشتقاقاً من الخضرة وأوراق المندي التي تشبه أوراق الآس بحجمها تقريباً والتي تنمو في البلاد العربية ( العراق والكويت وغيرهما ) وفي شرق وجنوب شرق آسيا، ولها أنواع كثيرة جداً، وكلها غنية بالمواد الصباغية والعفصية والعطرية عموماً.

 

تقطف الأوراق في الصباح عادة وتجفف في الظل. وقديماً كانت تسحق هذه الأوراق بالهاون ثم تعجن بالماء وتطبق على الأيدي أو القدمين أو الرأس مباشرة لساعات فتكتسب هذه المناطق اللون المطلوب، أما اليوم فتعجن البودرة بالماء الكحولي أو المذيبات العضوية المعروفة لضمان استنزاف كامل الصباغ فيها أو استخلاص العفص أو المواد المطهرة، ولربما أضيف إليها النيلة الزرقاء، أو شببت بصباغات أخرى للتلاعب بكثافتها اللونية.

 

وقد تطورت الرسوم من أقمار ودوائر في الماضي إلى أشكال فنية ورسومات جميلة جداً بل ومعبّرة في الحاضر. وإذا كنا نرغب في الحديث عن الحناء ليس لإبراز قيمتها التزيينية للمرأة وحسب بل لبيان قدراتها الصحية ( العلاجية والوقائية )، وقد لاح لنا شيء من هذا بعدما عرفنا احتواء النبات على بعض المواد الهامة وهو الذي يفسّر لنا سر الحديث النبوي الشريف الذي أمر بالخضاب كمعجزة طبية تضاف إلى سلسلة روائع النبي الطبية النافعة.

 

استخدمها المصريون القدماء، ونحن لا نزال نتذكر أقوال الأجداد ونصائحهم لاستعمالها عند إصابة الرأس بالفطور أو التشقق وفطور القدمين أو بعض الأمراض الجلدية الأخرى، وقد أورد السيوطي في كتاب " الرحمة في الطب والحكمة " استطبابات كثيرة للحنّاء كدواء شعبي فعال وقال بالحرف " إنها سنة لليدين والرجلين والرأس واللحية وهي تقوّي الباه وتزيد في نور البصر" وتكلم عن فوائدها للبثور والجروح وشقوق القدم والأيدي وتوسف فروة الرأس ( القشرة ) و ... غير ذلك.

 

أظهر التحليل الكهربائي لأوراق الحناء احتواءها، إضافة للصباغات، على مواد أخرى: مركبات انتراكينون، نشاء، سكريات.. وقد تم عزل بعض الزيوت العطرية والمواد المرّة والعفصية إضافة إلى فلافونول ومواد لعابية مشتقة من ( البولي سكاريد ). كما أنها تحتوي على مواد هامة جداً من الناحية الطبية بتأثيرها الفعّال ضد الجراثيم مثل : الكاسكين Chaskine والإيزوكاسكين Isochaskine مما يجعلنا ندعو الدوائر الطبية العربية والعالمية لدراسة إمكانية إدخال الحنّاء في بعض معاجين الأسنان وفي سواغات مراهم قابضة ومضادة للالتهاب ( إمكانية الاستعمال لمداواة الجروح والبواسير والقروح بفضل فعلها القابض والمطهّر )، ونتيجة التحاليل تضعنا أمام الحقائق التالية:

1-       للحناء فوائد هامة لتحضير العطور Perfumes وهو ما يتم فعلاً في الهند وأوروبا إذ يحضر منها نوع فاخر من العطور.

2-       إمكانية الاستخدام الصناعي في صباغ النسيج، وهو ما يتم أيضاً بالفعل.

3-       إمكانية إدخالها في ( شامبوهات ) : وغسولات ومصففات للشعر، ومعاجين أسنان. أما على الصعيد الطبي وفي ضوء المعارف الحديثة فقد:

 

أ ـ ثبت فائدة الحناء لصباغ الشعر بما تكسبه من شقرة ونعومة ولمعان ساحر، وهذه الشقرة تتراوح بين اللون الأصفر المحمر إلى البني المسود حسب كثافة العجينة الحنائية، وزمن التطبيق ( على أن أفضل نسبة هي : وزنان حناء مع وزنين كحول واثنين ماء تخلط جيداً ) ويمكن تخفيف اللون بإضافة قليل من النيلة الزرقاء أو أصبغة أخرى وتطبيق العجينة لمدة 4 ساعات ثم غسله بالماء العادي، وفي اليوم الثاني يغسل بماء البابونج إن أمكن.

 

ب ـ ثبت أن للحناء تأثيراً مضاداً للجراثيم نظراً لسهولة مرور موادها الفعّالة من خلال مساحات الجلد، ويمكن لهذا الغرض تطبيقها في حالات فطور الرأس أو القدمين، وقد بلغت نسبة الشفاء حداً مغرياً حقاً تجاوز الـ 90%.

 

ج -  تساعد الحناء على إبقاء الجسم والعيون باردة في فصل الصيف، مما يؤيد أقوال السيوطي آنفة الذكر، كما أنها تفيد في حالات العد " وحب الشباب " والبثور والحالات الأخرى... ولعل المستقبل يكشف لنا عن أسرار طبية جديدة لهذا الخضاب الشعبي المتوارث منذ أقدم العصور فنتأكد من أقوال الأطباء العرب القدماء حوله أمثال ابن زهر وابن سينا والبيطار فكلهم تكلموا عنه وعن استطباباته الرائعة والمدهشة بأرخص الأسعار...

 

وهكذا فإن الطبيعة تزودنا بالنباتات النافعة ـــ زينة وصحةً وغذاءً ـــ وما علينا نحن البشر إلا حماية هذه الثروة النباتية وتعميق دراساتنا وأبحاثنا بصددها لكشف كنهها ومزاياها في ضوء المعارف العلمية الحديثة.

 

وأنت سيدتي : آن لك أن تسرعي إلى الطبيعة النقية، إلى الحناء وأمثالها من المواد الخام التي لم تزل على أصل الخلقة دون أن تمتد إليها يد الخبث والأذى والنهب والتزييف، فالحناء والغار والبابونج والصباغات الطبيعية خير من الشامبو المصنّع والماكياج والكريمات وغيرها من وسائل الفتك الصامت بعدما علمنا عدم خلوّها من الضرر والخسارة الصحية والمادية علماً أكيداً لا يساوره شك.                                                                             

الدكتور عبد العزيز بن عبدالرحمن النوشان
استشاري أمراض طب وجراحة الجلد