إمكانية القضاء على وباء فيروس نقص المناعة البشرية

 

يجب التعامل بسرعة مع الأدلة المتزايدة على قدرة العلاج السريع بالعقاقير المضادة للفيروسات الرجعية على الحَدّ بقوة من انتقال فيروس نقص المناعة البشرية؛ للالتزام بالتاريخ المستهدَف للحَدّ من الوباء.

أكَّد العلماء لدى لقائهم في فانكوفر بكندا، لحضور الاجتماع السنوي "للجمعية الدولية لفيروس نقص المناعة البشرية"، في الفترة من 19 – 22 يوليو الماضي، على أن نهاية وباء نقص المناعة البشرية يمكن أن تلوح في الأفق، حيث أظهرت بيانات عديدة مُقْنِعة ـ حسب تأكيدهم ـ أن بداية استخدام العقار المضاد للفيروسات الرجعية على المستوى العالمي توفِّر وسيلة ناجعة لمنع انتقال الفيروس، شريطة أن يَتَّخِذ العالَم إجراءات سريعة.

يعود هذا التفاؤل إلى النجاح الواضح، الذي حققته منهجية "الوقاية بالعلاج"، حيث إن العلاج بالعقاقير المضادة للفيروسات الرجعية ـ بمجرد تشخيص الحالة ـ يبدو أنه لا يكتفي بمنع الموت والإعاقة الناتجَين عن المرض، ولكن يمنع أيضًا انتقال الفيروس. وقد استند "برنامج الأمم المتحدة المشترك المعنِيّ بفيروس نقص المناعة البشرية" UNAIDS إلى هذا التصور في عام 2014 في وضع الأهداف "90-90-90"، التي تسعى إلى تشخيص وعلاج %90 من الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية بفاعلية؛ للقضاء على المرض بحلول عام 2030، باعتباره تهديدًا للصحة العامة.

قَدَّر الخبراء ـ في التقرير الصادر في يونيو الماضي عن لجنة برنامج الأمم المتحدة المشترَك المعنِيّ بفيروس نقص المناعة البشرية "لانسيت" ـ أن هناك فرصة سانحة لمدة خمس سنوات، لتحقيق الأهداف "90-90-90"، أو صرف النظر عنها، (انظر: go.nature.com/ztqoj1). ويلاحِظ هؤلاء الخبراء تَراجُع أعداد الإصابات الجديدة، عامًا بعد عام، في ظل تلقِّي مزيد من الأشخاص علاجًا مضادًّا للفيروسات الرجعية، حيث إنه في عام 2013 بلغ عدد الأشخاص الذين يتلقُّون علاجًا مضادًا للفيروسات الرجعية حوالي 13 مليون فردًا، وهو ما يمثل زيادة تقدَّر بحوالي عشرة أضعاف ما كان في العقد السابق. وإذا استمر هذا التوجُّه؛ فإن ذلك يعني القدرة على تجاوز الأهداف الإنمائية للألفية، التي تم وضعها في عام 2011، بغرض معالجة 15 مليون مريض بحلول نهاية عام 2015.

وهنا، يظهر سؤال مهم: هل سيستمر هذا التوجه؟ إنّ هناك 35 مليون شخص يعيشون بإصابتهم بفيروس نقص المناعة البشرية، وسيحتاجون جميعًا ـ في نهاية الأمر ـ إلى العلاج المضاد للفيروسات الرجعية، غير أن معدلات توفير العلاج بطيئة للغاية، حسبما تشير اللجنة. وتقدِّر اللجنة أنه في حالة توفير العلاج للمرضى الجدد، بالمعدلات الحالية نفسها، فإن النمو السكاني في دول جنوب أفريقيا سوف يشهد مجددًا ارتفاع أعداد الإصابات الجديدة وحالات الوفاة السنوية الناتجة عن الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية بحلول عام 2020. أما إذا سارعت الدول إلى توفير العلاج على مدى السنوات الخمس القادمة؛ فإن هدف القضاء على الوباء بحلول عام 2030 سيصبح قابلًا للتحقُّق، حسبما تؤكد اللجنة، إلا أن بلوغ ذلك سوف يحتاج إلى استثمارات مالية ضخمة، تبلغ 36 مليار دولار سنويًّا، مقارنةً بالاستثمارات الحالية، التي تبلغ 19 مليار دولار سنويًّا فحسب، وهو ما يمثل %2.1 من إجمالي الناتج المحلي لبعض الدول المتضررة. وإقناع هذه الدول بالوصول إلى هذا المستوى من الاستثمارات في عصر التقشف سيكون أمرًا بالغ الصعوبة، لكن من خلال نمذجة المكاسب الاقتصادية؛ للحفاظ على صحة الأفراد؛ وجَعْلهم أعضاء منتجين في مجتمعاتهم، تقدِّر اللجنة أن الدول التي تعاني من الأعباء الضخمة لانتشار فيروس نقص المناعة البشرية سوف تستفيد من زيادة الإنفاق على مكافحة هذا الوباء.

"إنّ هذا العلاج فعّال في تحسين الصحة الفردية والعامة، إضافةً إلى كونه مناسبًا للميزانية المخصصة للصحة العامة".

 

وقد أشار تحقيق إخباري نشرته دورية Natureإلى أن العلماء يُجْرُون بدورهم أبحاثًا في "العلوم التطبيقية"، لتوضيح السبل المثلى لتوفير العلاج. وقد أصاب الباحثون في تسليط الضوء على النتائج التي تدعم بشكل قاطع زيادة الاستثمار؛ كوسيلة للحفاظ على الصحة، واحتواء الوباء، عن طريق وقْف انتقال الفيروس. وقد شهد عام 2011 ظهور الدليل الأول والأساسي، الذي يدعم منهجية الوقاية بالعلاج. فقد اكتشفت دراسة بعنوان (HPTN 052) أن تقديم العلاج للشريك المصاب من الزوجين فور التشخيص يقلل من خطر نقل الفيروس منه إلى الشريك غير المصاب بنسبة %96، بغض النظر عما إذا كان عدد خلايا الدم الخاصة بالزوج أو الزوجة قد كشف عن أرقام منخفضة من خلايا "كتلة التمايز-4" (CD4)، التي تنتمي إلى الخلايا التائية، والتي تمثِّل العلامةَ المعتادة على تفاقم المرض، والإشارةً إلى العلاج المضاد للفيروسات الرجعية.

لقد كانت هناك إجابات قاطعة ـ على نطاق واسع ـ لبعض الأسئلة المفتوحة المتعلقة بالسياق نفسه، مثل التساؤل عن نجاح هذه المنهجية في أماكن أخرى، حيث إنه في فبراير 2015، أفادت تجربة "تيمبرانو" TEMPRANO ـ التي أُجريت على أكثر من خمسة آلاف شخص في كوت ديفوار ـ أن بدء العلاج المضاد للفيروسات الرجعية في الحال يقلل من مخاطر الوفاة والإصابة بأمراض خطيرة، مثل مرض السل، والالتهابات البكتيرية، بنسبة %44. وفي شهر مايو من العام نفسه، توقفت مبكرًا تجربة "ستارت"، التي شملت 4,685 شخصًا من 35 دولة، بعد أن أفادت أن العلاج الفوري قد قلل من مخاطر الإصابة بأمراض خطيرة، أو الوفاة بنسبة %53. وقد حظى هذا التوجه بانتشار واسع في الدول ذات الدخول المنخفضة، والمتوسطة، والمرتفعة.

وبناءً على هذه النتائج، وغيرها، تبحث منظمة الصحة العالمية مراجعة مبادئها التوجيهية؛ للتوصية بتوفير العلاج المضاد للفيروسات الرجعية بصورة فورية لجميع الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة، دون تمييز. ويمكن تعزيز الدليل على حدوث هذا التحول في اجتماع الجمعية الدولية للإيدز، حيث ستقدم تجربة (HPTN 052) معلومات بشأن استمرار معدلات التراجع العالية في انتقال الفيروس على المدى الطويل من عدمها، كما ستقدم تجربة "ستارت" نتائجها الكاملة (نتائج شهر مايو كانت أولية).

وإجمالًا، تؤكد الأدلة على أن العالَم الآن يمتلك الأدوات اللازمة، للقضاء على تهديد فيروس نقص المناعة البشرية. كما يؤكد جوليو مونتانر، الأستاذ بجامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر، والرئيس المشارك للمؤتمر: "إنّ هذا العلاج فعال في تحسين الصحة الفردية والعامة، إضافةً إلى كونه مناسبًا للميزانية المخصصة للصحة العامة. وبهذا.. فهو لا يترك لصانعي السياسات مفرًّا من عدم الاعتماد عليه".

 

نقلا عن مجلة الطبيعة – النسخة العربية

عدد سبتمبر 2015م

 

 

http://arabicedition.nature.com/journal/2015/09/523127a