مضاد حيوي جديد ...... عَصِيّ على المقاومة

تَمَكَّن مَسْح عشرة آلاف سلالة بكتيرية استُزرعت في بيئة التربة الطبيعية من الكشف عن مضاد حيوي قوي الفعالية. وبما أن هذا المركَّب يستهدف جزيئات الدهون، فربما تصبح مقاومته صعبة.

 نحن بحاجة إلى مضادات حيوية جديدة. فمسؤولو الصحة العامة في جميع أنحاء العالم يقرعون ناقوس خطر يعلن أن تطورات الطب الحديث عرضة لخطر داهم في مواجهة المقاومة المستجدة للجراثيم تجاه المضادات الحيوية الموجودة حاليًّا1,2. ورغم هذه الحاجة الإكلينيكية الملحة، والإدراك الواسع للمشكلة، فهناك عدد قليل من المضادات الحيوية الجديدة القادمة إلى السوق، وذلك بسبب انخفاض مشاركة قطاع اكتشاف الأدوية في هذا المجال، وغياب الأساليب المبتكرة لتحديد المركبات الرائدة. هكذا يقدّم لينج وزملاؤه3 الحلول الممكنة لكلا التحدِّيَيْن في تقريرهم الخاص باكتشاف نوع من بكتيريا التربة "غير قابلة للاستزراع" ينتج مضادًّا حيويًّا لم يظهر أي دليل على تحريض تطور المقاومة التلقائية بأهدافه البكتيرية.

 

إن اكتشاف الأدوية عمل مكلف. والمضادات الحيوية، خلافًا لمعظم أصناف الأدوية الأخرى، عرضة لتطور المقاومة بطبيعتها. لذا.. يجب على مكتشفي المضادات الحيوية أن يكافحوا آلية "التدمير الذاتي" التي تتميز بها، والتي يمكن أن تبرز في أي وقت، مما يجعل تقدير عائدات الاستثمار أمرًا صعبًا. وإضافة إلى ذلك.. ينصح الممارسون في مجال الأمراض المعدية ومسؤولو الصحة العامة بعدم الاستخدام الزائد للمضادات الحيوية الجديدة، بهدف إبطاء تطور المقاومة، وهذا يؤدي إلى تناقص مبيعات أي منتج جديد. وتقديرًا لهذه التحديات، تتوالى المبادرات التشريعية المصممة لتحفيز الاستثمار التجاري في اكتشاف المضادات الحيوية4.

 

وإلى جانب غياب الحماس في مجال الصناعات الدوائية، هناك تحدي اختيار المركبات الابتدائية لمرحلة اكتشاف تطوير المضادات الحيوية. غالبية المضادات الحيوية الناجحة هي منتجات ميكروبية طبيعة، أو من مشتقاتها، ومنذ اكتشاف المضادات الحيوية الأولى في بدايات القرن العشرين، كانت بكتيريا التربة والفطريات هي مصدر المضادات الحيوية5. والحقيقة أن معظم الهياكل الكيميائية للمضادات الحيوية المستعملة حاليًّا اكتُشفت أثناء فترة يُطلق عليها اسم العصر الذهبي للمضادات الحيوية، وهي الفترة التي تمتد بين عامي 1940 و1960 تقريبًا. ومنذ ذلك الوقت، أصبح استخراج أدوية جديدة من هذه المصادر ممارسة متناقصة المردود، لأن الهياكل نفسها يعاد التعرف عليها بشكل روتيني أثناء المسوح. ولمواجهة هذا الاتجاه، تحولت الصناعة الدوائية نحو المركّبات الصناعية في ثمانينات القرن العشرين، مشفوعة بأساليب المسح المستندة إلى الهدف. وعلى الرغم من كونها ناجحة جدًّا في اكتشاف الأدوية لأمراض أخرى، فشلت هذه الاستراتيجية ـ في غالبيتها ـ في تقديم مضادات حيوية6,7 محفّزة العودة إلى مسح المنتجات الطبيعية الميكروبية8.

 

إن مشكلة هذه المسوح التي تعيد إظهار الهياكل الكيميائية نفسها مرارًا وتكرارًا قد تكون شديدة الصلة بالأمكنة التي نبحث فيها. فبكتيريا الأكتينومايستات Actinomycete، خاصة الأجناس التي تكوّن جراثيم وتعيش في التربة، كانت تشكِّل منذ فترة طويلة الدعامة الأساسية لاكتشاف المضادات الحيوية. وهي سهلة الاستزارع في المختبر، لكنها تمثل جزءًا ضئيلا فقط من التنوع الجيني الميكروبي في التربة؛ والغالبية العظمى من الأنواع الموجودة في العينات البيئية لا يمكن استزراعها بسهولة، ويُعتقَد أن هذه "المادة المظلمة" الميكروبية9 قد تمثل مصدرًا غير مستغلّ من هياكل المضادات الحيوية الجديدة.

 

سيكون أحد طرق الوصول إلى هذه المركبات هو إنشاء مكتبات جينومية كبيرة تمثل أنواعًا ميكروبية متعددة، ثم التعبير عن هذه الجينات في الكائنات المضيفة الأخرى. وثمة أسلوب آخر، هو تطوير تقنيات استزراع جديدة. وقد قادت مجموعة البحث التي تقدم البحث الحالي عدة أساليب لاستزراع الأصناف النادرة، ومن ضمنها النمو في الأوساط الطبيعية. أحد هذه الأساليب ينطوي على الرقاقة الذكية10 iChip – كأداة مصغرة متعددة الحجيرات؛ من أجل استزراع عالي الإنتاجية للخلايا النادرة في مصادرها البيئية مباشرة، وبالتالي إثراء الأنواع التي تتطلب ظروفًا لا يسهل تكرارها باستخدام أساليب المختبر التقليدية.

 

استعمل لينج وزملاؤه هذه التقنية لعزل عشرة آلاف سلالة بكتيرية من التربة، وأعدوا منها خلاصات، اختبروا قدرتها على كبْح نمو Staphylococcus aureus (نوع من البكتيريا الممرضة التي تنتمي إلى صف إيجابيات الجرام). وقد اشتُق أحد المستخلصات التي تبدي فعالية واعدة من بيتا بروتيوبكتيريوم سلبية الجرام، التي أطلق الباحثون عليها اسم Eleftheria terra. كشفت تنقية المضاد الحيوي الذي تنتجه هذه البكتيريا وتصميمه البنيوي، الذي يُطلَق عليه اسم تيكسوبكتين teixobactin،عن هيكل كيميائي مختلف عن المضادات الحيوية الموجودة حاليًّا (الشكل 1). وتشير النتائج إلى أن أساليب كهذه لاستخراج الميكروبات من التربة قد تكشف عن خزان من هياكل المضادات الحيوية الجديدة. 

 

 

 

استخدم لينج وزملاؤه3 الرقاقة الإلكترونية10 iChip التي سبق أن طوّروها من أجل استزراع عشرة آلاف نوع بكتيري في بيئة التربة الطبيعية، ثم غطّوا مستخلصات من هذه البكتيريا ببكتيريا Staphylococcus aureus؛ لكي يحددوا المستخلصات المحتوية على مركّبات يمكنها قتل هذه البكتيريا الممرضة. أدَّى هذا إلى تحديد عدد من البكتيريا المرشحة لإنتاج المضاد الحيوي. وباستخدام التنقية الموجهة بالفعالية، التي تمت فيها تجزئة المستخلصات المرشحة باستعمال عدة تقنيات، وقياس فعالية المضاد الحيوي على امتداد الوقت، تمكَّن الباحثون من تحديد بكتيريا Eleftheria terrae، باعتبارها منتجة لمضاد حيوي جديد، يُدعى (تيكسوبكتين).

 

 

 

تشير تجارب المؤلفين إلى أن تيكسوبكتين يمارس تأثيراته المضادة الحيوية عن طريق الارتباط باثنين من سلائف بوليمرات الجدار الخلوي البكتيري: الدهن II ( ببتيدوجليكان)، والدهن III (حمض التيكويك). تفسِّر خاصية الارتباط هذه فعالية المركب ضد البكتيريا إيجابية الجرام، التي تحتوي على طبقة سميكة من الببتيدوجليكان في جدارها الخلوي الذي يحتوي على حمض التيكويك، وغياب فعاليتها ضد معظم البكتيريا سالبة الجرام، المحاطة بغشاء خارجي غير نافذ للدهون II، يفتقر إلى حمض التيكويك. وأظهر الباحثون أن علاج الفئران المصابة بعدوى S. aureus أو Streptococcus pneumonia (نوع البكتيريا الذي يسبب عدوى القسم العلوي من الجهاز التنفسي) بواسطة تيكسوبكتين قد خفف حالة العدوى، دون سُمِّيَّة واضحة. وإضافة إلى ذلك.. فإن جهود الباحثين لتوليد طفرات مقاومة للتيكسوبكتين في البكتيريا إيجابية الجرام المستهدفة لم تكلل بالنجاح.

 

يرجع السبب لغياب مقاومة البكتيريا للتيكسوبكتين إلى أن مقاومة المضادات الحيوية لا تنشأ ضد الأنواع التي تستهدف الجزيئات الدهنية اللازمة لبناء جدار الخلية، مقارنةً بتلك التي تستهدف البروتينات. تضطلع الخلية بمهمة تخليق الدهون من سلائف عضوية، في حين تكون جينات ترميز البروتينات عرضة لحدوث طفرات، تتولد عنها هياكل لا يستطيع المضاد الحيوي استهدافها، وهو ما يكسبها ميزة البقاء في وجوده.

 

يرتبط الفانكومايسين أيضًا بسلائف دهون الجدار الخلوي، ولم تتطور المقاومة لهذه المضادات الحيوية في المستشفيات قبل مرور ما يقرب من 40 عامًا على اكتشافه في عام 1953، عندما نشطت بطريقة ما آلية المقاومة الذاتية التي تستخدمها البكتيريا المنتجة للفانكومايسين ـ ربما عن طريق نقل الجينات الأفقي ـ والتقاطها من قبل السلالات المسببة للأمراض11. ويبدو أن مُنتِج التيكسوبكتين ـ الذي تعرّف عليه لينج وزملاؤه ـ لا يتطلب آلية محددة للمقاومة الذاتية، وذلك بسبب وجود الغشاء الخارجي، وبالتالي فإن الالتقاط الحتمي لوحدة المقاومة الذاتية من قبل الأنواع الأخرى يبدو غير مرجح.

 

يبقى أن نرى ما إذا كانت آليات المقاومة الأخرى تجاه التيكسوبكتين موجودة في البيئة، أم لا، ولكن النتائج التي توصل إليها الباحثون تشير إلى أن البحث المنهجي عن بكتيريا سلبية الجرام تنتج مضادات حيوية تستهدف جدار الخلية إيجابية الجرام قد يُمَكِّن من العثور على مضادات حيوية أخرى "خفيفة المقاومة". وقد تحدِّد المسوح المتبادلة لمنتجي إيجابيات الجرام من أجل المكونات الأساسية للغشاء الخارجي سلبي الجرام بطريقة مشابهة عوامل واعدة ضد العوامل الممرضة من هذا الصف البكتيري. وهكذا، في حقل يهيمن عليه الموت والظلام، يمنح عمل لينج وزملائه الأمل في إمكانية مزج الابتكار والإبداع؛ لحل أزمة المضادات الحيوية.

 

 

 

الدكتور جيرارد رايت

 

قسم الكيمياء الحيوية وعلوم الطب الحيوي

 

جامعة مكماستر، هاملتون، أونتاريو، كندا

 

نقلا عن مجلة (Nature)

الطبعة العربية مارس 2015م      

The best bookmaker in the UK William Hill - whbonus.webs.com William Hill